Sunday, June 21, 2020

المؤرخ الكبير د.صالح العطوان الحيالي الحيالي / النص / الغطرسة المغولية

الفطرسة  المغولية تتفتت على صخرة عين جالوت
ــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق -8-حزيران-2020
تقع عين جالوت في الجهة الشمالية الغربية من مدينة بيسان، وتبعد مسافة 10 كيلومترات عن نهر الجالود، ويقع بجوارها عين ماء، ويتحدد موقعها في منتصف المسافة الواقعة بين قرية نورس، وقرية زرعين، على حدود جنين وبيسان، وتسمى بعين جالود أيضاً، وقد ورد أن ابن شداد ذكرها، وقال فيها: "عين جالوت قرية عامرة، ويوجد عندها عين جارية، وفيها خيّم السيد صلاح الدين الأيوبي"  وقد ذُكرت عين جالوت أيضاً في معجم البلدان على أنها بُليدة واقعة بين مدينة بيسان ومدينة نابلس، في فلسطين، وعينُ الجالوت اسم أعجمي، ممنوع من الصرف
حدث في عين جالوت معركتان مشهورتان، والمعركة الأولى هي عندما استولى الصليبيون على عين جالوت، وسموها آنذاك ب (توبعانية)، وقد استمرت في قبضة الصليبيين حتى عام 1183م إذ حررها من قبضتهم صلاح الدين الأيوبي، أما المعركة الثانية فهي معركة عين جالوت التي اندلعت بين التتار والعرب عام 1259م، ويُشار إلى أنه بجوار بلدة عين جالوت يقع تل أثري مميز، والذي اتخذه التتار حصناً
معركة عين جالوت (25 رمضان 658 هـ / 3 سبتمبر 1260م) هي إحدى أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي؛ إذ استطاع جيش المماليك بقيادة سيف الدين قطز إلحاق أول هزيمة قاسية بجيش المغول بقيادة كتبغا.  وقعت المعركة بعد انتكاسات مريرة لدول ومدن العالم الإسلامي، حيث سقطت الدولة الخورازمية بيد المغول ثم تبعها سقوط بغداد بعد حصار دام أياماً فاستبيحت المدينة وقُتل الخليفة المستعصم بالله فسقطت معه الخلافة العباسية،[  ثم تبع ذلك سقوط جميع مدن الشام وفلسطين وخضعت لهولاكو، كانت مصر في تلك الفترة تئِنُّ من الصراعات الداخلية والتي انتهت باعتلاء سيف الدين قطز عرش مصر سنة 657 هـ / 1259 سلطانا لمماليك مصر فبدأ بالتحضير لمواجهة التتار، فقام بترتيب البيت الداخلي لمصر وقمع ثورات الطامعين بالحكم، ثم أصدر عفواً عاماً عن المماليك الهاربين من مصر بعد مقتل فارس الدين أقطاي بمن فيهم بيبرس، ثم طلب من العز بن عبد السلام إصدار فتوى تُشرع له جمع الضرائب على سكان مصر بعد أن واجهته أزمة اقتصادية عجز من خلالها عن تجهيز الجيش، وكان له ما أراد وأصدر العز بن عبد السلام فتوى تجيز جمع الضرائب بشروطٍ خاصة ومحددة، ما إن انتهى قطز من تجهيز الجيش حتى سار به من منطقة الصالحية شرق مصر حتى وصل إلى سهل عين جالوت الذي يقع تقريباً بين مدينة بيسان شمالاً ومدينة نابلس جنوباً في فلسطين، وفيها تواجه الجيشان الإسلامي والمغولي، وكانت الغلبة للمسلمين، واستطاع الآلاف من المغول الهرب من المعركة واتجهوا قرب بيسان، وعندها وقعت المعركة الحاسمة وانتصر المسلمون انتصاراً عظيماً، وأُبيد جيش المغول بأكمله
كان لمعركة عين جالوت أثراً عظيماً في تغيير موازين القوة بين القوى العظمى المتصارعة في منطقة الشام، فقد تسببت خسارة المغول في المعركة من تحجيم قوتهم، فلم يستطع القائد المغولي هولاكو الذي كان مستقراً في تبريز من التفكير بإعادة احتلال الشام مرةً أخرى، وكان أقصى ما فعله رداً على هزيمة قائده كتبغا هو إرسال حملة انتقامية أغارت على حلب
في الخامس والعشرين من رمضان عام 658هـ، انتصر المسلمون بقيادة الملك المظفر سيف الدين قطز في المعركة الخالدة عين جالوت، حيث قهرت الجيوش الإسلامية التتار، الذين قتلوا ملايين البشر من المسلمين وغيرهم، وقضوا على خلافة المسلمين وعاصمتها بغداد في عام 656هـ.
يعد قطز من أبرز قادة دولة المماليك، وهو سليل ملوك بلاد ما وراء النهر (أوزبكستان الآن)، ورغم أن فترة حكمة لم تدم سوى عام واحد إلا أنه استطاع أن يُوقف زحف المغول؛ الذي كاد أن يقضي على الدولة الإسلامية، وهزمهم هزيمة منكرة في عين جالوت.
كان من نتائج سقوط بلاد الشام في أيدي المغول وحلفائهم أن عم الرعب والخوف سائر أرجائها، فهرب الناس باتجاه الأراضي المصرية، وصاروا يبحثون عن قيادة حكيمة قوية تنهي الخلاف وتوحد الكلمة، وتعيد تنظيم الشتات، وتبعث روح الجهاد الإسلامي في النفوس لدرء ذلك العدوان الذي استشرى خطره وبات يهدد ما بقي من العالم الإسلامي بالدمار والهلاك، وقد كانت مصر حينذاك هي البلد الإسلامي الوحيد المؤهل للقيام بهذه المهمة.
فبعدما سحق التتار كل الإمارات الإسلامية من الصين في أقصى الشرق مروراً بوسط آسيا وإيران والعراق والشام، لم يتبقَّ لهم في حصادهم البشري إلا مصر، التي لو سقطت حينها لأمكن للتتار أن يرتعوا في القارة الأوروبية، فضلاً عن إفريقيا وبلاد المغرب الإسلامي، لا يردهم في ذلك رادٌّ.
وبكل صلف وغرور، وبعدما احتل التتار بمعاونة الصليبيين وبعض الخونة من المسلمين بلادَ الشام، أرسلوا رسالة فيها من التهديد والوعيد إلى سلطان مصر قطز، يخبرونه فيها بضرورة تسليم مصر بكل هدوء حتى لا تكون كمثيلاتها من البلدان الأخرى، ولكن المجاهد المؤمن لا يغتر بمثل هذه التُّرَّهات، ومن ثَمَّ أمر بقطع رؤوس الرسل المغول وتعليقها في أبواب القاهرة؛ لطمأنة عموم الناس، وبثّ الأمل والثقة فيهم.
عندما نتحدث عن عين جالوت التي سقط فيها جيش التتار، فإننا نتحدث عن موقعة غيرت خريطة العالم بالفعل، ورفعت عن كاهل الأمة الإسلامية وغير الإسلامية كابوسًا من أكبر الكوابيس التي مرَّت بها.. فقد عانى العالم كله معاناةً شديدةً من كارثة كادت تقضي على كل صور ومظاهر الحضارة في العالم لولا موقعة عين جالوت التي ردَّتْ للناس الأمن والأمان في العالم كله. إننا نتحدث -في الواقع- عن نجاح الأمة الإسلامية في تخطِّي أزمة كبيرةٍ كانت كفيلةً بالقضاء عليها، ونتحدث عن الأسباب والوسائل التي أتاحت هذا النجاح.
الاجتياح التتري للعالم الإسلامي
ــــــــــــــــــــ التتار دولة ظهرت على حدود الصين في منغوليا سنة 603هـ/ 1206م، وقد أنشأ هذه الدولة أحد أكبر سفَّاحي ومجرمي العالم "جنكيز خان"، الذي كان شخصية دموية إلى أقصى درجات التخيل، كما كان ذا قدرةٍ كبيرةٍ على القيادة والتجميع؛ فجمع أعدادًا هائلة من التتار، وفي غضون عشر سنوات تقريبًا استطاع أن يضم كل منغوليا التي ظهر فيها، وكل الصين وكوريا وتايلاند وكمبوديا، كل ذلك دولة واحدة أصبح رئيسها جنكيز خان الذي بدأ بعد ذلك يتطلع إلى ما بعدها. كانت المملكة الخوارزمية وهي جزء من الممالك الإسلامية (وهي الآن كازاخستان وأوزبكستان وباكستان وأفغانستان) ملاصقةً لبلاد جنكيز خان، فبدأ يغزوها، واستطاع بالفعل أن يجتاح العالم الإسلامي اجتياحًا غير متخيَّل، لدرجة أنه في سنة 617هـ/ 1220م استطاعت جيوشه أن تحتلَّ العالم الإسلامي من غرب الصين إلى شرق العراق، وتلك مساحة لا تُتَخيَّل من الأرض والكثافة السكانية العالية.. وقد كانت جيوشه في منتهى القوة والعنف والإرهاب، وهذا يُظهِر الوضع الذي كان عليه المسلمون.. ضعف شديد.. فُرقة وبُعد المسئولين عن الدين.. وتمسُّك المسلمين بالدنيا.. وانفصال الحكام عن المحكومين.. أمور وأمراض كثيرة أدَّت لهذا الهوان الذي وصلت إليه الأمة، وبالتالي اجتاحت جيوش التتار كل هذه المساحات.
استطاع التتار أن يُدخِلوا في حكمهم خلال هذه السنة (617هـ/ 1220م) كازاخستان وباكستان وأوزبكستان وأفغانستان وتركمانستان، وأجزاء ضخمة جدًّا من إيران، وأذربيجان كلها، وأرمينيا (وكانت نصرانية)، والكرج (دولة جورجيا حاليًا)، والشيشان وداغستان وجنوب روسيا، كل هذا في عام واحد.. اجتياح تام.. دموية التتار الشديدة تجعل من السهل أن نذكر أن التتار ما دخلوا بلدًا إلا وقتلوا كل سكانها رجالاً ونساءً وأطفالاً، محاربين ومدنيين، كل شيء يُقتل، وتُؤخذ ثروات البلد.
دموية التتار وتدمير مرو وبغداد
ــــــــــــــــــــ من أشهر الأمثلة غزو مدينة "مرو" الإسلامية، التي كانت من حواضر العلم والثقافة والاقتصاد، وهي تقع بين التركمانستان وإيران، وهذه المدينة كان سكانها تسعمائة ألف، خرج مائتا ألفٍ منهم لمحاربة التتار، وفنوا عن آخرهم، ودخل التتار وحاصروا المدينة، وأعطوا الأمان لأهلها، وخرج أهل المدينة بعهد الأمان، لكن التتار كالعادة خانوا العهد، وسفكوا دم سبعمائة ألف مسلم.. قتلوا المدينة كلها ولم يبقَ بها حيٌّ واحد، وهكذا في أكثر من مدينة.
لم يكتفِ التتار بغزو العالم الإسلامي فقط، وإنما جاوزوه بعد ذلك إلى أوربا؛ لهذا أقول: إن المعاناة التي عانى منها الناس ليست معاناة إسلامية فقط لكنها معاناة إنسانية عالمية من جيوش التتار، حتى أصبحت دولة التتار سنة 639هـ/ 1241م تصل من كوريا شرقا إلى بولندا غربًا.. وبعد ذلك وفي سنة 656هـ/ 1258م استطاعوا إسقاط الخلافة العباسية وقتل الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، وبذلك سقط الكيان الذي يجمع الأمة الإسلامية أكثر من 500 سنة وأكثر، وعندما دخلوا بغداد قتلوا مليون مسلم (وسكان بغداد في ذلك الوقت 3 مليون أي قتلوا ثلث السكان، وكانت أكبر مدينة في العالم) وبعد موقعة التتار اختفى ذكرها من الكتب ولم يعُدْ إلا في القرن العشرين؛ لأن معظم السكان ماتوا، بمن فيهم من العلماء والفقهاء والحكام والأمراء والوزراء والمفكرين، إضافةً إلى تدمير الثروات والقصور والديار، وأشهر ما دُمِّر في بغداد هي المكتبة عندما ألقوا بعصارة فكر الإنسانية كلها في نهر دجلة؛ ليختفي بذلك كمٌّ هائل من العلوم ليس في علوم الشريعة فقط، لكن في كل مجالات الحياة من طب وفلك وهندسة وكيمياء وفيزياء وجغرافيا وغيرها من العلوم.
قبل مغادرة هولاكو من بلاد الشام أرسل رسلا لقطز يحملون كتابا كان مما فيه
«مِن ملك الملوك شرقاً وغرباً، الخان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء.. يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته أنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلّطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتَبَر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ويعود عليكم الخطأ.. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب وعلينا الطلب. فأي أرض تأويكم؟ وأي طريق تنجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع.. فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم. فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر.. فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرب الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً ولا كافياً ولا حرزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذّرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم »
عقد سيف الدين قطز اجتماعا مع وجهاء مصر وعلمائها كان من بينهم العز بن عبد السلام وتم الاتفاق على التوجه لقتال التتار إذ لا مجال لمداهنتهم، وكان العز بن عبد السلام قد أمر أمراء ووجهاء الدولة أن يتقدموا بنفائس أملاكهم لدعم مسيرة الجيش المصري فطلب قطز الأمراء وتكلم معهم في الرحيل فأبوا كلهم عليه وامتنعوا من الرحيل‏، ولما وجد منهم هذا التخاذل والتهاون ألقى كلمته المأثورة «يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين». وقد اختلى قطز ببيرس البندقداري الذي كان أمير الأمراء واستشاره في الموضوع. فأشار عليه بقتل الرسل، والذهاب إلى كتبغا متضامنين. فإن انتصرنا أو هزمنا، فسوف نكون في كلتا الحالتين معذورين. فاستصوب قطز هذا الكلام، وقام بقتل رسل المغول لإيصال رغبته في قتالهم وأنه جاد بذلك. وقد زاد من عزيمة المسلمين وصول رسالة من صارم الدين أزبك بن عبد الله الأشرفي -وقد وقع أسيرا في يد المغول إثناء غزوهم الشام ثم قبل الخدمة في صفوفهم- أوضح لهم فيها قلة عددهم وشجعهم على قتالهم وأن لايخافوا منهم . فلا شك أن قطز قد أفاد من رحيل هولاكو إلى فارس على رأس معظم جيشه بعد سماعه بوفاة أخيه الخان الأعظم، فمن تبقى بالشام من عساكر المغول تحت قيادة كتبغا يتراوح ما بين 10آلاف إلى 20 ألف رجل
حاول المغول عبر كتبغا النسطوري التحالف مع مملكة بيت المقدس الصليبية ولكن بابا الفاتيكان منع وحرم التحالف مع المغول. ثم أتت حادثة قتل ابن أخي كتبغا بواسطة الفرسان الصليبين بصيدا فاكتسح صيدا عقابا على ذلك. أما الصليبيون في عكا فقد اتجه قطز إلى مسالمتهم ومهادنتهم, واستأذنهم بعبور جيشه الأراضي التي يحتلونها وطلب منهم الوقوف على الحياد من الحرب ما بين المماليك والمغول. وأقسم لهم انه متى تبعه فارس منهم أو رجل يريد أذى عسكر المسلمين إلا رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتار إلا إن الصليبيين سلموا بأن المسألة هي مسألة وقت ثم يكتسحهم المغول ويدمرونهم كما دمروا غيرهم، فلذلك غضوا الطرف على عبور المصريين أراضيهم ولم يتصدوا لهم. وقد بر على مابدى اولئك الصليبيين بوعدهم فلم يغدروا بالمعسكر الإسلامي من الخلف . في 15 شعبان 658هـ/أغسطس 1260 م خرج قطز يسبقه بيبرس البندقداري ليكشف أخبار المغول. واجهت سرية بيبرس طلائع جنود المغول في منطقة قرب غزة، كان قائد المغول في غزة هو بايدر أخو كتبغا الذي أرسل له كتابا يعلمه فيه بتحرك المسلمين، أخذ بيبرس في مناوشة وقتال المغول حتى انتصر عليهم. اتجه بعدها قطز إلى غزة ومنها عن طريق الساحل إلى شمال فلسطين. في تلك الأثناء اجتمع كتبغا الذي كان في بعلبك بالبقاع مع وجهاء جيشه، فاستشار الأشرف صاحب حمص والمجير بن الزكي، فأشاروا عليه بأنه لا قبل له بالمظفر حتى يعود سيده هولاكو خان ، ومنهم من أشار إليه -اعتمادا على قوة المغول التي لا تقهر- أن ينطلق لقتالهم. اختار كتبغا أن يتجه لقتالهم فجمع جيشه وانطلق باتجاه الجيش المصري حتى لاقاهم في المكان الذي يعرف باسم عين جالوت.
قطز وبناء الأمة
ــــــــــــــــ الروح الإسلامية ووحدة الأمةلم يتخيل أحد أن مصر أو أية قوة في العالم الإسلامي يمكن أن تقف أمام هذا الكائن الضخم، لكن "قطز" رحمه الله بدأ بسياسة في منتهى الروعة في تأهيل الوزراء والأمراء والجيش والشعب لهذه الموقعة.. واستغرقت فترة التأهيل عشرة أشهر، فيها وجَّه الشعبَ توجُّهًا إسلاميًّا واضحًا.. جعل القضية قضية إسلامية في المقام الأول، يصرف فيها المسلم دمه وروحه وماله من أجل الله ؛ فقد كان القتالُ غيرَ الذي سبق وسقط بسببه المسلمون؛ لأن المسلمين كانوا يدافعون عن دُنياهم ولا يدافعون عن دينهم، حتى الشعوب نفسها لم تكن في ذهنها قضية الدين.
بدأ قطز ينمِّي فيهم الروح والحميَّة، وحرَّك في الناس روح الإيمان، كما كان للعلماء دور مهم في مصر؛ فقد أعطى قطز للأزهر وعلمائه دورًا كبيرًا في توجيه الأمة، وإعادة بنائها روحيًّا، وكان على رأس هؤلاء العلماء "العز بن عبد السلام" سلطان العلماء، الذي كان يحب قطز حبًّا شديدًا، ويرى أنه أفضل المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز.. وبدأ العلماء يقومون بدورهم نحو الشعب، وبدءوا يرفعون من قيمة الجهاد في سبيل الله.
كان هناك عامل كبير في إيقاظ روح الجهاد في الأمة، وهو القدوة؛ فقطز لم يجلس في قصره الآمن يحرِّك الجيوش، وهو بمعزل عن الخطر، ولكنه فعل مثلما كان يفعل رسول الله ؛ إذ كان يفعل كل شيء بيده قبل يد الصحابة.. هكذا فعل قطز، أول ما صعد لكرسيّ الحكم قال: لم أصعد لهذا الكرسي إلا لقتال التتار بنفسي.
كما كان قطز -رحمه الله- يُنصِت لكلام العلماء وينفذه؛ لذا وافق العزَّ بن عبد السلام عندما رفض فرض الضرائب على الشعب لتجهيز وإعداد الجيش إلا بعد أن ينتهي المال من بيت المال، ويردَّ الوزراء والأمراء الأموالَ التي أخذوها من بيت مال المسلمين.. فعندما سمع قطز تلك الفتوى قال: "أنا أول من يفعل ذلك".
قطز وتوحيد المسلمين
ــــــــــــــــــ الوحدة الإسلاميةبعد ذلك خطا قطز خطوة رائعة في تاريخ الإنسانية؛ لأنه بدأ يوحِّد صف المسلمين الذين كانوا على "أيبك"، وكان بينهم خلاف وصراع شديد.. نسي كل الخلافات وأصدر عفوًا حقيقيًّا عمَّن كان على خلاف شديد معه قبل ذلك.. المهم أن قطز في النهاية كوَّن جيشًا من المسلمين المصريين والشاميين.
بعد خروج الجيش لحرب التتار اختار قطز مكان الموقعة في فلسطين، مع أن كل الأمراء رفضوا أن تكون الحرب في فلسطين، لكن قطز -رحمه الله- حوَّل الأمر إلى قضية إسلامية، إضافةً إلى البُعد الأمني القومي لمصر التي لا تقبل بوجود عدو قوي يحتل فلسطين، وتبقى هي في أمان؛ فلا شكَّ أنَّ أمانها سيكون مهدَّدًا.. المهم وحَّد قطز الجيوش، وخرج بها، واختار مكان الموقعة في عين جالوت، ورتَّب جيوشه ترتيبًا محكمًا، وأعد العُدَّة بشكل في منتهى الروعة عسكريًّا وتنسيقًا للجيش ومن ناحية الخطة، وسبق إلى مكان المعركة قبل جيش التتار؛ وذلك يوم 25 من رمضان سنة 658هـ/ 1260م في موقعة من أشرس المواقع في تاريخ البشرية، وشهد التتار أبشع كابوس في حياتهم عندما قيَّض الله لعِباده النصر المؤزَّر في مثل هذه الأيام المباركات.
لقد كانت أحوال المسلمين في أيام غزو التتار غير مسبوقة ولا ملحوقة من حيث السوء والضعف، ولكنهم استعانوا بالله فنصرهم. واليوم الأمة الإسلامية تواجه شدائد واختبارات ومحنًا عظيمة، ولكنها لا ترقى لما كانت عليه أيام التتار؛ لذا فهي تستطيع بإذن الله أن تخرج منها لو أحسنت التوكُّل على الله، وأخذت بأسباب النصر؛ من الوَحدة، والاستعداد الإيماني والعسكري.
التقى الفريقان في المكان المعروف باسم عين جالوت في فلسطين في 25 رمضان 658 هـ/3 سبتمبر 1260 م (وقت وصول الجيشين تماما مختلف فيه). قام سيف الدين قطز بتقسيم المصريين لمقدمة بقيادة بيبرس وبقية الجيش يختبئ بين التلال وفي الوديان المجاورة لتنفيذ هجوم مضاد أو معاكس. وكان قطز قد اجتمع بالإمراء، فحضهم على قتال التتار وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وخوفهم وقوع مثل ذلك، وحضهم على استنقاذ الشام من التتار ونصرة الإسلام والمسلمين، فضجوا بالبكاء، وتحالفوا على الإجتهاد في قتال التتار ودفعهم عن البلاد .
قامت مقدمة الجيش بقيادة بيبرس بهجوم سريع ثم إنسحبت متظاهرة بانهزام مزيف هدفه سحب خيالة المغول إلى الكمين، في حين كان قطز قد حشد جيشه استعدادا لهجوم مضاد كاسح، ومعه قوات الخيالة الفرسان الكامنين فوق الوادي.
وانطلت الحيلة على كتبغا فحمل بكل قواه على مقدمة الجيش المصري واخترقه وبدأت المقدمة في التراجع إلى داخل الكمين، وفي تلك الأثناء خرج قطز وبقية مشاة وفرسان مصر وعملوا على تطويق ومحاصرة قوات كتبغا، حيث كان المصريون ينزلون من فوق تلال الجليل، والمغول يصعدون إليهم. ثم هجم كتبغا بعنف شديد إلى درجة أن مقدمة الجيش المصري ازيحت جانبا، فاستبسل كتبغا في القتال، فاندحر جناح ميسرة عسكر مصر وإن ثبت الصدر والميمنة وعندئذ ألقى السلطان المصري قطز خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته «واإسلاماه»، وحمل بنفسه وبمن معه حتى استطاعوا ان يشقوا طريقهم داخل الجيوش المغولية مما أصابها بالإضطراب والتفكك . ولم يمض كثيرا من الوقت حتى هزم الجيش المغولي ونصح بعض القادة كتبغا بالفرار فأبى الهوان والذل وقتل بعض أصحابه وجرت بينه وبين رجل يدعى العرينان مبارزة حيث لم يمض وقت طويل عليها حتى سقط كتبغا صريعا مجندلا على الأرض وكان انتصار كبير للمسلمين. وسجل التاريخ في هذه المعركة تمكن فرسان الخيالة الثقيلة للجيش المصري من هزيمة نظرائهم المغول بشكل واضح في القتال القريب، وذلك لم يُشهد لأحد غيرهم من قبل. نقطة أخرى ظهرت لأول مرة بتلك المعركة وهي المدفعية وإن كانت بالشكل البدائي إلا إنها استخدمت بالمعركة من جانب الجيش المصري لتخويف خيل المغول وارباك الخيالة مما ساعد في خلخلة التنظيم العسكري المغولي بالمعركة. وقد تم شرح تركيبة البارود المتفجرة لتلك المدافع بعد ذلك في الكيمياء العربية والكتيبات العسكرية في أوائل القرن الرابع عشر .
ما بعد المعركة
بعد المعركة قام ولاة المغول في الشام بالهرب، فدخل قطز دمشق في 27 رمضان 658 هـ، وبدأ في إعادة الأمن إلى نصابه في جميع المدن الشامية، وتعيين ولاة لها. وأستأمن الأشرف صاحب حمص‏ وكان مع التتار وقد جعله هولاكو خان نائباً على الشام كله، فأمنه الملك المظفر، ورد إليه حمص، وكذلك رد حماة إلى المنصور وزاده المعرة وغيرها‏.‏ وأطلق سلمية للأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتبع الأمير بيبرس البندقداري وجماعة من الشجعان المغول يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان‏.‏ فتبعهم المصريون من دمشق يقتلون فيهم، ويستفكّون الأسارى من أيديهم .‏ وكان قطز قد أرسل بيبرس البندقداري ليطرد المغول عن حلب ويتسلمها ووعده بنيابتها، فلما طردهم عنها وأخرجهم منها استناب قطز عليها غيره وهو علاء الدين ابن صاحب الموصل‏.‏ وكان ذلك سبب الوحشة التي وقعت بينه وبين بيبرس واقتضت قتل الملك المظفر قطز سريعا.
كانت النتيجة النهائية لهذه المعركة هي توحيد الشام ومصر تحت حكم سلطان المماليك في مصر على مدى ما يزيد عن نحو مئتين وسبعين سنة حتى قام العثمانيون بالسيطرة على أراضيهم في عهد سليم الأول
نسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين.
المصادر
1- عين جالوت بقيادة الملك المظفر قطز، الدكتور شوقي أبو خليل
2- قصة التتار من البداية حتى عين جالوت، راغب السرجاني
3- قاهر التتار سلطان مصر والشام المظفر قطز، رابطة أدباء الشام
4- السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت معلومات استخبارية مهمة، المكتبة الشاملة
5- كتاب البداية والنهاية
6- عين جالوت محمد عبد الغني
7- علي الصلابي - السلطان قطز ومعركة عين جالوت
8- الوطن العربي والغزو الصليبي - تأليف د. خاشع المعاضيدي.
9- مصر والشام في عصر الايوبين والمماليك، سعيد عبد الفتاح عاشور
10-مقالة عن معركة عين جالوت بقلم محمود شيت خطاب السلطان.
11- مقالة عن معركة عين جالوت بقلم الدكتور قاسم عبده قاسم.
12- القلقشندي صبح الأعشى في صناعة الإنشا
13- المقريزي،السلوك لمعرفة دول الملوك
14-نور الدين خليل،سيف الدين قطز
15- ابن كثير، البداية والنهاية
16- أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر
17- ابن تغري: النجوم الزاهرة في ملوك مصر و القاهرة
18- أبو بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري : كنز الدرر وجامع الغرر
19- معجم البلدان ياقوت الحموي
20- ابن شداد


No comments:

Post a Comment