ما بين الماضي والحاضر " الانظمة العربية الحالية وملوك الطوائف"
ــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 4-4-2020
يصف الناس عهد ملوك الطوائف في الأندلس بأكثر الفترات انحطاطا في تاريخها، قلّما تذكر سيرتهم دون شتم وتخوين وإساءة، ملوك مهادنين خائنين انصرفوا نحو مصالحهم الذاتية، يحكمون شعوبا لا مبالية منغمسة في الشهوات الحسية، لاهين لاعبين عابثين بإرث أجدادهم الحضاري. لم يرحمهم الواقع الذي لا ينفك عن عقد مقارنة بينهم وبين ملوك الحاضر، كما لم يرحمهم التاريخ الحانق على المآلات السياسية والارتهان للآخر.. تزخز مؤلفات التاريخ وأمهات كتب الأندلس بأوصاف تعكس هذا الانطباع، فهم الـ "خول لأعدائهم" حد تعبير ابن عبد البر، وهم "أمراء الفٌرقة الهمل الذين ما بين فشل ووكل" حسب وصف ابن بسّام.
وربما تفهم هذه الأوصاف في إدراك سياق حالهم، أمراء متناحرين مهادنين للعدو في مساحة جغرافية لم تتجاوز في أكبر اتساع لها ثلثي مساحة مصر، تضم آنذاك أكثر من عشرين زعيما مفرقين على دويلات مستقلة كل واحد فيهم تسمى باسم ملك أو خليفة أو أمير للمؤمنين!
من سخرية الأقدار ان خمسة يونيو الذكرى الخمسون للنكسة العربية واحتلال القدس هو نفس اليوم الذي انفجرت الأزمة الخليجية فجأة دون سابق إنذار … فقط بعد أيام قليلة من لقاء ترامب بنحو خمسون زعيماً .
لعل الزمان يدور دورته بفعل تراكم هموم الشعب العربي فالذاكرة الجمعية تحكي بأن الأندلس قد سقطت بعد ان نخر الفساد أركانها وبدأت حقبة ملوك الطوائف الذين قسموا دولة الاندلس إلى 22 دويلة تماما كالنظام الإقليمي العربي منذ عام 1916 بعد إن أصبحت اتفاقية (سايس بيكو) واقعاً بين كيانات عربية مشتتة غداة أفول الدولة العثمانية وفشل محاولات إقامة دولة عربية موحدة على كامل الوطن العربي ، مما جعل كل أمير او شيخ أو حتى جمهوريات العسكر العربية التي عصفت بها رياح محاولات التغيير بما سمى بالربيع العربي.
الغاية واحدة لهذه الأنظمة بغض النظر عن شكل الحكم وهي التقوقع داخل كيان “وطني” بهوية مُسخ وتأسيس حكم اسري او فئوي فقسمت البلاد العربية الى 22 كيانا سياسياً ، وهو نفس عدد دويلات الطوائف باﻻندلس مع اختلاف ان البلدان العربية اليوم البعض منها حظي بثروة نفطية هائلة كان ممكن يسخر لمصلحة الأمة ونهضتها .
تشرذمت الأندلس إلى كيانات صغيرة منهكة ضعيفة متحاربة فيما بينها من تلك الممالك: غرناطة وأشبيلية والمرية وبلنسية وطليطلة وسرقسطة والبرازين والبداجوز وبلنسية ودانية والبليار ومورور. وبينما ورثت تلك الدويلات ثراء الخلافة ، إلا أن عدم استقرار الحكم فيها والتناحر المستمر بين بعضها البعض جعل منهم فريسة لصليبيي الشمال، ووصل الأمر إلى أن ملوك الطوائف كانوا يدفعون الجزية للملك ألفونسو السادس، وكانوا يستعينون به على إخوانهم
هل يتكرَّر التاريخ، ويعود بِنا الزمان، ويستحق حكامنا، الملوك والقادة والأمراء، النهاية المحتومة، ويقفون كأسلافهم فوق الأطلال، يبكون عليها كما النساء، وقد أضاعوا ملكًا لم يدافعوا عنه دفاع الرجال؟!
أهي صدفةٌ أم أنه قدرٌ مكتوب، وتاريخٌ مسجَّلٌ من قديمٍ في اللوح المحفوظ، بأن يكون العربُ اثنتين وعشرين دولة، ممزقين ومشتتين، متحاربين ومتقاتلين، أعداءً وخصومًا، وممالك وإماراتٍ ومشايخ وجمهورياتٍ ودولًا، تفصل بينهم الحدود، ويقف على بواباتهم الجنود والحراس، ولكلٍ دولةٍ منهم جيشٌ وعلمٌ ورايةٌ وشعارٌ، وملكٌ وحاكمٌ وحاجبٌ وحكومةٌ، وسجنٌ وسجّانٌ، ومحاكمٌ وقضاءٌ وسؤالٌ وتحقيقٌ وتعذيب، ولكلٍ منها قوانينها الخاصة، وأنظمتها المختلفة، وأزياءها المميزة، وثقافتها الفارقة، وغير ذلك مما يجعل من كل دولةٍ كيانًا خاصًا سيدًا حرًا مستقلًا، لا تربطها بغيرها علاقة، ولا توحدها مع جارتها رابطةُ لغةٍ أو عرقٍ أو دين، رغم أنهم ينتمون جميعًا إلى دينٍ واحدٍ، وحضارةٍ عظيمة واحدة. تمامًا كما كان أسلافنا العرب في القرن الخامس الهجري، الثالث عشر الميلادي، ذات الصورة والمشهد، ونفس الحال والمصير، فقد انقسم المسلمون في الأندلس، وتمزَّقوا شر مُمزَّق، وجلهم من العرب والبربر، مصريين وعدنانيين وقحطانيين وحجازيين وشاميين، إلى اثنتين وعشرين مملكة، فيما عُرِفَ بعصر الطوائف، الذي كان العصر الأسوأ في تاريخ العرب في الأندلس، والأكثر دمويةَ وقسوة، والأكثر غدرًا وخيانة، والأقل شرفًا ووفاءًا، وقد خلا ملوكهم من المروءة والرجولة، ومن القِيَم والشِّيَم، فكانوا عبيدًا لشهواتهم، وأجراء عند أسيادهم، لا يهمهم من الأمر إلا الحكم ومباهجه، والملك ومُتعه، ومنه كانت بداية الرحيل والاندثار، والإيذان بالغياب والاضمحلال، لدولٍ لا تستحق البقاء، ولملوكٍ لا يستأهلون الحياة.
حيث أصبح لكلِ طائفةٍ من العرب والمولدين والبربر مملكة، ولهم ملكٌ يحكم، وجيشٌ يدافع ويحارب، ويقاتل ويهاجم، ولكلِ مملكة أسوارٌ وحصون، وبواباتٌ عالية، وحراسٌ لا ينامون ولا يتعبون، يدققون في وجوه الداخلين والخارجين، فلا يسمحون لغريبٍ بالدخول، ولا يقبولون بمواطني الممالك الأخرى بالعبور، ولو كان لهم في هذه المملكةِ أهلٌ وأقارب، أو تجارةٌ ومصالح، فمن التزم بالقرار عاد ورجع، وإلا دُقَ عنقه، أو عُلِّق مصلوبًا أو مشنوقًا على بوابات المملكة، يراه الداخلون والخارجون، ليخافوا ويتعظوا، أو يقطع رأسه، ويرسل مع غيره إلى مملكته، ليكون رسالةً إلى ملكهم، وعبرةً لشعبهم، أن هذا مصيره وجنده، إن فكر بالغزو، أو خطط للهجوم والاجتياح.
في الوقت الذي كان فيه الفرنجه وغيرهم من سكان الممالك النصرانية القريبة والبعيدة، يدخلون إلى بلادنا معززين مكرمين، تفتح لهم الأبواب، وتقدم لهم الهدايا، وتيسر لهم الطريق، يشترون ويبتاعون، ويسهرون ويستمتعون، ويتعلمون ويدرسون، فلا يعتدي عليهم أحد، ولا يسألهم الحراس عن أسباب الزيارة، وأذونات الدخول الرسمية، كما كان سفراؤهم يجوبون بلادنا، ويتنقلون بين ممالكنا، بحريةٍ ودون خوف، وكأنهم أصحاب الحق، وأهل الحل والعقد، فقد كان أمراء العرب يدينون بذلٍ لهم، ويخضعون بمهانةٍ لشروطهم، وينزلون عند قراراتهم، ولو كان فيها حيفًا وظلمًا، وتعديًا واستكبارًا.
إنه تاريخٌ واحدٌ متشابهٌ إلى درجةٍ كبيرة، لا لجهة عدد الدول فقط، وإنما لجهة السياسات والتحالفات، واهتمامات الحكام وهوايات الملوك، وانحطاط قيمهم وثورة غرائزهم، وحرصهم على تيجانهم وإقطاعاتهم، وحبهم للمال والبذخ، والزينة والزخرف، والقينات والمعازف، والراقصات والمغنيات، وقد كانت على حساب الكرامة والدين، والأرض والشرف والوطن.
أخشى أن تكون نتائجه أيضًا متشابهة، وأن يكون مآل الأنظمة والحكومات، كمآل ممالك الطوائف، وأن يكون مصير القادة والحكام في زماننا، كمصير مملوك طوائف الأندلس، الذين قتلوا أولادهم، وتآمروا على إخوانهم، وانقلبوا على حلفائهم، حتى كان الحتف مصيرهم جميعًا، والفناء آخرتهم بلا استثناء.
في عصر ممالك الطوائف، احترب الملوك وتقاتلوا، وأدخلوا شعوبهم في أتونِ حروبٍ طاحنةٍ لا تنتهي، بعد أن قطعوا الأواصر التي تربطهم، ونفوا الروابط التي تجمعهم، بل إنهم تصالحوا مع أعدائهم، وتحالفوا مع خصومهم، من ملوك قشتالة وليون وبرشلونة وأراجون وغيرها.. ومنحوهم أجزاءً من أرضهم، وتنازلوا لهم عن حصونهم وقلاعهم، وأقطعوهم من أرضهم قواعد لهم، وقاموا بتجهيز جيوشهم، وتمويل حملاتهم العسكرية، وأعطوا كل جنديٍ في جيوشهم راتبًا شهريًا، ومكافئاتٍ مجزلة جدًا لقادة الفرق والجيوش، فضلًا عن الآمرين والمنظمين وأصحاب القرارات في الممالك، شرط أن يقاتلوا معهم، أو نيابةً عنهم، ولهم بعد ذلك عن كل قتيلٍ مكافأة، وعن كل مدينةٍ تسقط علاوةً جديدة، وبدل كل أسيرٍ إضافة.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن لهم كل سبيٍ يسبونه، ولهم كل ما يضع جنودهم عليه، من أموالٍ ومواشي ومقتنياتٍ، فضلًا عن النساء والغلمان، فإنهن سباياهم، يفعلون بهم ما يشاؤون، بيعًا واستباحة، وخدمةً واستمتاعًا، وقد كان العرب يرون بناتهم يساقون أبكارًا إلى حلفائهم، ثمنًا للخيانة، وبدلًا عن الدفاع والنصرة، والحماية والقتال إلى جانبهم ضد إخوانهم وأبناء دينهم.
ألا ترون أن التاريخ يتكرَّر! وأن واقع حال الممالك الإثنتين والعشرين يشبه حال دولنا الاثنتين والعشرين، فلا فرق في الظروف والوقائع، ولا اختلاف في الأحلاف والسياسات، أولئك كانوا يمنحون ملوك الحلفاء ذهبًا ومالًا وأرضًا ونساءً، ودولنا اليوم تمنح دول الحلفاء نفطًا وذهبًا ومالًا وقواعد عسكرية، ونفوذًا اقتصاديًا وسياسيًا، وغير ذلك مما يخفى علينا، ويصعب علينا التعرف عليه لسريته، وإن كنا نعرف يقينًا أن للعدو في بلادنا مصالح، وله على أرضنا قواعد، تحميه قوانيننا، وتدافع عنه أنظمتنا.
أولئك الملوك الذين كانوا مثالًا في السوء والفحش، ونموذجًا في الخيانة والغدر، قد سقطوا جميعًا واندثروا، تعددت نهاياتهم واختلفت خواتيمهم، لكن مصيرهم كان واحدًا، فقد قتلوا على أيدي حلفائهم، أو بسيوف جنودهم، أو تآمرًا من أصدقائهم، واحتلت بلادهم، ودمَّرت ممالكهم، وانتهت أحلامهم، ثم طُرِد شعبهم، واستباح العدو أرضهم، وأقام لهم فيها محاكم للتفتيش ما زالت آثارها حتى اليوم باقية..
فهل يتكرَّر التاريخ، ويعود بِنا الزمان، ويستحق حكامنا، الملوك والقادة والأمراء، النهاية المحتومة، ويقفون كأسلافهم فوق الأطلال، يبكون عليها كما النساء، وقد أضاعوا ملكًا لم يدافعوا عنه دفاع الرجال؟!
المصادر
1-نخيل بالنثيا في كتابه المهم "تاريخ الفكر الأندلسي
2- ابن عبد البر
3- ابن حزم
4-آرنولد تويبيني - التحدي والاستجابة
Monday, April 13, 2020
Dr. صالح العوان الحيالي الحيالي / مابين الحاضر والماضي
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment