الصحابيات ورمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 2-5-2020
حل شهر رمضان المبارك، شهر فضله الله تعالى على سائر الشهور، وجعل فيه ليلة خيرا من ألف شهر، شهر ينادي فيه المنادي من السماء "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أدبر". فماذا كان حال الصالحات في هذا الشهر الكريم؟
اتكلم عن نماذج من نساء صدقن، لبين النداء، فاستجبن لداعي الخير وأقبلن بقلوبهن وجوارحهن عليه، يغنمن منه ما به يرتفعن درجات في الآخرة، لسان حالهن يقول "ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد".
مكانة المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يكن المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانا للصلاة فحسب، يغلق بعدها بدقائق كما هو عليه حال مساجدنا اليوم، بل كان قلب الأمة النابض، مكانا للعبادة وحلق الذكر، ومكانا العلم والتعلم، كما كان مكانا للتشاور حول الشؤون العامة للأمة.
ولمكانة المسجد هذه، حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضمان حق المرأة المسلمة في حضوره، ونهى صحابته عن منعهن من ذلك قائلا : "لاتمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها" الحديث أخرجه الإمام مسلم عن سيدنا عبد الله بن عمر.
حضورهن الصلوات المفروضة وصلاة الجمعة
كان المؤمنات الصحابيات يحضرن صلاة الفجر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما شهدت بذلك أمنا عائشة رضي الله عنها قالت : "كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن (متلففات في غطائهن) ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغلس (ظلمة الليل)" رواه الشيخان.
وكن يحضرن صلاة العشاء بصبيانهن والليل في أوج سلطانه، ولم يكن يفسدن الصلاة بضجيج صبيانهن –والصبيان من وصلوا إلى سن تعلم الصلاة، لا الرضع، من كان لها رضيع كانت تعلم أن الله عز وجل لم يفرض عليها الصلاة في المسجد، وصلاتها في بيتها أولى – قالت أمنا عائشة رضي الله عنها : "أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتمة (تأخر عن الخروج لصلاة العشاء، وهي صلاة العتمة)، حتى ناداه عمر : نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ما ينتظرها أحد غيركم من أهل الأرض. ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة. وكانوا يصلون العشاء فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول" رواه البخاري ومسلم.
كن يحضرن الصلوات الخمس فيتعلمن الخشوع، ويصلين على الميت فيتذكرن الموت، ويحضرن الجمعة وخطبتها فيتعلمن القرآن، وكانت الجمعة مدرسة لا حفلة خطابية لتمجيد الحاكم. قالت أم هشام بنت حارثة بن المعمان : "لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة. وما أخذت (ق والقرآن المجيد) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأها كل جمعة على المنبر إذا خطب" رواه مسلم.
حضورهن في جميع المناسبات التعبدية بما فيها شهر رمضان
صلت الصحابيات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف، فأطالها حتى إن سيدتنا أسماء الصديقية قالت : "أطال رسول الله صلى الله عليه وسلم جدا حتى تجلاني الغشي. وإلى جنبي قربة فيها ماء. ففتحتها وجعلت أصب منها على رأسي" رواه مسلم وفي رواية أخرى له قالت : "فجعلت أنظر إلى المرأة أسن مني، وإلى الأخرى هي أسقم مني" ينظر بعضهن لبعض فيزددن قوة وجلدا على القيام.
وفي صلاة الكسوف يرى الصحابة رجالا ونساء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأخر حتى ينتهي إلى صفوف النساء، ويتقدم مرة أخرى. فلما فرغ من الصلاة أخبرهم قائلا : "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه. لقد جيء بالنار، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها. وحتى رأيت صاحب المحجن (عصا معقوفة) يجر قصبه (أمعاءه) في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال : إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به. وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا. ثم جيء بالجنة. وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي. ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل. فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه" رواه مسلم.
نقرأ عن سيدتنا أسماء الصديقية حرصها على العلم وقد كان مكانه المسجد، كما قرأنا حرصها على استفراغ الجهد في عبادة الله عز وجل : قالت رضي الله عنها : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا (بعد صلاة الكسوف) فذكر فتنة القبر الذي يفتتن فيه المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة حالت بيني وبين أن أفهم آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما سكت ضجيجهم قلت لرجل قريب مني : أي بارك الله فيك، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه؟ قال الرجل : قال : "قد أوحي إلي أنكم في القبور قريبا من فتنة الدجال..." الحديث رواه البخاري إلى كلمة " ضجة" وروى النسائي والإسماعيلي بقيته. فهل يمنع الشرع المؤمنة من سؤال جارها في مسجد روحه خشوع ورهبة واستحضار لرقابة الله والاستعداد ليوم العرض عليه؟
• حضورهن قيام العشر الأواخر من رمضان
إذا كان هذا حال الصادقات من الصحابيات والصالحات، من لزوم المسجد والحضور فيه، صفا بصف الرجال، لطلب العلم، وتجديد الإيمان، في كل الأحوال وسائر المناسبات، فحضورهن في شهر رمضان كان أعظم، وحرصهن على غنم الخيرات خلال هذا الشهر الكريم كان أكبر.
روى ابن ماجة في سننه عن أبي ذر قال : "صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان. فلم يقم بنا شيئا منه. حتى بقي سبع ليال. فقام بنا ليلة السابعة حتى مضى نحو من ثلث الليل. ثم كانت الليلة السادسة التي تليها فلم يقمها (بهم). حتى كانت الخامسة التي تليها، ثم قام بنا حتى مضى نحو من شطر الليل. فقلت : يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه. فقال "إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف، فإنه يعدل قيام ليلة" ثم كانت الرابعة التي تليها، فلم يقمها (بهم). حتى كانت الثالثة التي تليها. قال : فجمع نساءه وأهله واجتمع الناس. قال : فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قيل وما الفلاح؟ قال : السحور. قال فلم يقم بنا شيئا من بقية الشهر".
" جمع نساءه و أهله و اجتمع الناس" كان صلى الله عليه و سلم حريصا على المؤمنين، رؤوفا رحيما بهم، كما أثنى عليه الحق سبحانه، حريصا على آخرتهم أن يفوتهم خير فيكونوا فيه من المغبونين، و نساؤه و أهله أقرب المؤمنين إليه، و أولاهم بحرصه.
روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره، و أحيا ليله، و أيقظ أهله."
كانت سنته صلى الله عليه و سلم أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل سنة في المسجد، فاستأذنته أمنا عائشة في إحداهن فأذن لها ثم أذن من بعدها لحفصة، إلا أنه تراجع مخافة أن يصبح ذلك أصل تقتدي به سائر النساء، و الله تعالى يعلم ما أناط به المرأة من مسؤولية رعاية البيت و حفظ غيب الزوج.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها، و سألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت، فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببناء فبني لها، قالت : و كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فبصر بالأبنية، فقال "ماهذا؟" قالوا : بناء عائشة و حفصة و زينب، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم " آلبر أردن بهذ؟ ما أنا بمعتكف". فرجع، فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال."
لم يمنعهن من الاعتكاف وحدهن، و إلا لكان في ذلك دلالة على إنكاره على النساء فعل ذلك، بل امتنع هو الأول عن الاعتكاف على عظم تلك الأيام، كل ذلك مخافة أن يخالط نياتهن شيء آخر غير إرادة البر و ابتغاء وجه الله.
كلا و لم تفهم نساؤه صلى الله عليه و سلم من هذا الامتناع نهي لهن عن معاودة الاعتكاف، و إلا لما فعلن ذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما يورد ذلك الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده." و في هذا دلالة صريحة على أنهن فقهن الدرس جيدا : فالمرأة تمر من مراحل في حياتها، و لكل مرحلة أولوياتها، فمن كانت في سن الإنجاب و الرعاية فعبوديتها لله عز و جل تقتضي القيام بمسؤولية الرعاية " ...و المرأة راعية في بيت زوجها و هي مسؤولة عن رعيتها..." رواه الشيخان و الترمذي و غيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أما من وفت حق الأبناء و حق الزوج، فقد حق لها أن تنعم بأوقات و ليالي تعكف فيها على مناجاة ربها و التبتل بين يديه و التقرب منه، ففضله سبحانه يعم الرجال و النساء بالاستجابة و الاصطفاء " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض" سورة آل عمران آية 195.
• حضورهن تتويج الصيام و القيام، يوم العيد :
لقد كان النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ينفرن استجابة لداعي الخير، و يستنفرن لذلك كل مؤمنة حتى يعم الخير الصبيان و الأبكار، لا يتركن فرصة لنيل الأجر و التقرب من الله عز و جل إلا كن أشد حرصا عليها، و من أعظم هذه الفرص حضور صلاة العيد، أوان يكافئ الله عز و جل فيه المؤمنين على صيامهم و قيامهم إيمانا و احتسابا، إنه الصوم الذي هو لله و لا يجزي به إلا هو سبحانه.
روى البخاري و مسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت : " كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى نخرج البكر من خذرها، حتى نخرج الحيض فيكن من خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم و يدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم و طهرته."
4. تلبيتهن لمنادي رسول الله صلى الله عليه و سلم لحضور الاجتماعات العامة :
هل نفهم من " اجتمع الناس" في الحديث أنهم كانوا من الرجال فقط؟ أين نضع إذن الأحاديث السالفة التي تثبت حضور النساء في كل الصلوات و المناسبات التعبدية؟
روى الإمام مسلم عن فاطمة بنت قيس قالت : " نودي في الناس أن الصلاة جامعة ( و هو نداء لحضور اجتماع عام فضلا عن الدعوة للصلاة المكتوبة) فانطلقت فيمن انطلق من الناس فكنت في الصف المقدم من النساء و هو يلي المؤخر من الرجال ( في الصلاة)."
و عند مسلم أيضا عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم أنها قالت : " كنت أسمع الناس يذكرون الحوض و لم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم، فلما كان يوما من ذلك و الجارية تمشطني فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول على المنبر : " أيها الناس" فقلت للجارية : استأخري عني. قالت : إنما دعا الرجال و لم يدع النساء. فقلت إني من الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إني لكم فرط على الحوض فإياي لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال فأقول فيم هذا فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا ".
إنه الشعور بمسؤولية الانتماء إلى الأمة في أبهى تجلياته، سرعة استجابة من سيدتنا أم سلمة توحي بمشاركة فعلية للصادقات في شأن أمتهم العام، بتهممهم بهموم الأمة على قدر تهممهم بمصيرهم الأخروي. ألم يسمعن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : "من أصبح و همه غير الله فليس من الله في شيء، و من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" سمعن و صدقن فجمعن بين الهمين معا : هم المصبر إلى الله عز و جل، و هم مستقبل الأمة التي ينتمين إليها.
كان المسجد على عهد رسول الله صلى مكانا لمشاركة في الشورى الجامعة بين المؤمنين و المؤمنات، كما كان مكانا للمشاركة في الجهاد بما يتناسب و طبيعة كل من الطرفين : روى البخاري و مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أصيب سعد يوم الخندق ...فضرب النبي صلى الله عليه و سلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب.." قال الحافظ بن حجر :" ...و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل سعدا في خيمة رفيدة عند مسجده و كانت امرأة تداوي الجرحى فقال : " اجعلوه في خيمتها لأعوده من قريب " لله ذرك يا رفيدة، تضرب لك خيمة في المسجد يعود فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم جرحى الخندق، و لك شرف مداواتهم تنالين به مثل درجات المجاهدين.
من أين لأفهامنا بنور السنة الواضحة التي لا تترك مجالا للتأويل، يزيل غشاوة قرون مضت على الأمة و هي معطلة مهمشة لشطر الأمة الحيوي، للمربيات لأجيال الجهاد؟ من أين لنا بوصلة تصلنا مباشرة بذلك العصر الذهبي لنعيش السنة حية كما عاشها الصحابة و الصحابيات، من أين لنا بسير أمثالهم و أمثالهن لنقتدي و نجدد؟
لم يكن حضور الصالحات الصادقات للمسجد انضباطا بالموعد و أداء لركوع و سجود فحسب، بل كان روحه إيمان بالله و اليوم الآخر، و تعلم لليقين، و تصديق بالقلب. فحق لهم و لهن ثناء الله عز و جل على الصادقين : " و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون. لهم ما يشاءون عند ربهم، ذلك جزاء المحسنين" سورة الزمر آية 33. الذي جاء بالصدق كالذي صدق سواء في البشارة.
المصادر
1- السنة النبوية لابن هشام
2- صحيح البخاري
3- صحيح مسلم
No comments:
Post a Comment