العزة لا تنال هكذا !!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق-31-تموز 2020
من معاني مصطلح العزة التي ذكرها العلماء في اللغة (القوة والشدة والغلبة والرفعة والامتناع) فالعزة إذن هي حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب أو يُمتهن أو يُقهر.
العِزَّة والإيمان صِنْوَان لا يفترقان، فمتى وَقَرَ الإيمان في قلب الرَّجل، وتشبَّع به كيَانُه، واختلط بشِغَاف قلبه، تشرَّب العِزَّة مباشرةً، فانبثقت منه أقوال وأفعال صادرة عن شعور عظيم بالفَخْر والاستعْلاء، لا فخرًا واستعلاءً على المؤمنين، بل هو على الكافرين ، بل يَنْتُج - أيضًا - عن هذا الخُلُق الكريم، صِدْقُ الانتماء لهذا الدِّين، وقُوَّةُ الرَّابط مع أهله، والتَّواضُع لهم، والرَّحمة بهم .
قال الله تعالى : " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ " [المنافقون: 8] (فجعل العِزَّة صِنْو الإيمان في القلب المؤمن؛ العِزَّة المستمدَّة من عِزَّته تعالى، العِزَّة التي لا تَهُون ولا تَهُن، ولا تنحني ولا تلين، ولا تُــزَايل القلب المؤمن في أحرج اللَّحظات، إلَّا أن يتضَعْضَع فيه الإيمان، فإذا استقرَّ الإيمان ورسخ، فالعِزَّة معه مستقِرَّة راسخة " وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ " وكيف يعلمون وهم لا يتذوَّقون هذه العِزَّة، ولا يتَّصِلون بمصدرها الأصيل؟!)
والعِزَّة تَنْتُج عن معرفة الإنسان لنفسه، وتقديره لها، وترفُّعه بها عن أن تصيب الدَّنايا، أو تُصَاب بها، أو أن تَخْنَع لغير الله عزَّ وجلَّ أو أن تركع لسواه، أو أن تُدَاهن، وتحابي في دين الله عزَّ وجلَّ ، أو أن ترضى بالدَّنيَّة فيه، فهي نتيجة طبيعيَّة لهذه المعرفة، كما أنَّ الكِبْر نتيجة طبيعيَّة للجهل بقيمة هذه النَّفس وبمقدارها، يقول الراغب الأصفهاني : (العِزَّة : منزلة شريفة، وهي نتيجة معرفة الإنسان بقدر نفسه، وإكرامها عن الضَّراعة للأعراض الدُّنيويَّة، كما أنَّ الكِبْر نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه، وإنزالها فوق منزلتها) [الذريعة إلى مكارم الشريعة،للراغب الأصفهانى]
وفي زماننا هذا، يُستعاض عن مصطلح العزة بمصطلح الكرامة، كمصطلح مرادف له، هذا فيما يختص بالمدلول الإيجابي. أما في المدلول السلبي، فهو يعني الحمية والأنفة المذمومة، كما في قوله تعالى (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد). و لا تُطلب العزة دائماً للنفس أو الذات، بل تُطلب أيضاً لمفاهيم أخرى، كالقوميات والأيديولوجيات أو التقدم العلمي أو الاقتصادي أو العسكري، فيعتز الفرد، وتعتز الأمة بما تملك من أنماط العزة المختلفة.
وكما يتبين مما سبق ذكره، أن هناك عزة محمودة وأخرى مذمومة، فالعزة المحمودة هي عزة المؤمن بالله العزيز الذي لا يُغلب ولا يُقاوم، كما قال تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)، وهي ما يُعبر عنها بالعزة الدائمة بديمومة العزيز الحميد، بخلاف عزة الكافرين المعتزين بما أوتوا من أسباب القوة المادية والهيمنة والمال، لأنها عرضة للزوال، بزوال أسبابها، كما في قول الله عز وجل (بل الذين كفروا في عزة وشقاق).
فالعزة تكتسب ديمومتها من ارتباطها بالعزيز دائم العزة، والزائلة هي التي ترتبط بعزة من تزول عزته لأي سبب من الأسباب. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره، أذلنا الله)، وقال الإمام الشافعي رحمه الله (من لم تُعزه التقوى فلا عزة له).
وفي هذا السياق، لما فُتحت مدائن قبرص، تنحى أبوالدرداء وجعل يبكي، فأتاه جُبير بن نفير فقال له: (ما يبكيك يا أبا الدرداء؟ أتبكي في يوم أعز الله الإسلام وأهله؟ وأذل الكفر وأهله؟ فقال أبو الدرداء: ما أهون الخلق على الخالق إن تركوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة على الناس، حتى تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى).
مرت على دولة الإسلام بـ"الأندلس" فترات مختلفة انتقلت فيها من حال إلى حال ومن طور لآخر، من قوة إلى ضعف، ومن وحدة إلى تفرق، ومن علو إلى استضعاف.. وهكذا.
ويعتبر عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر (364- 392هـ) من أزهى وأعظم عصور الأندلس، وذلك بفضل السياسة الحكيمة والقوية التي اتبعها الحاجب المنصور رحمه الله، حيث شغل الناس بالجهاد في سبيل الله عن التناحر والخلاف الداخلي والذي أضعف الأندلس أمام عدوها الأسبان في عهود سابقة، هذا الخلاف العصبي والقبلي بين قبائل العرب هو الذي مهّد السبيل أمام الأسبان للتجمع مرة أخرى في شمال الأندلس وتكوين عدة ممالك صليبية مثل أرجوان وقشتالة وليون، والتي صارت شوكة في خاصرة دولة الإسلام في الأندلس، حتى جاء عهد الحاجب المنصور، وقضى عليه بالجهاد.
ولقد شنّ الحاجب المنصور زيادة عن خمسين غزوة مباركة ضد الأسبان، لم يهزم في واحدة منها قطّ، وكان له بهم نكاية عظيمة، وبأس شديد، وكان يخرج بنفسه على رأس الجيوش المجاهدة ويباشر القتال بسيفه ونفسه، وكان كلما سمع الأسبان بقدومه إلى جهة ما، فروا منها مثل الفئران إلى رءوس الجبال، وبذلوا له الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وكان "الحاجب" لا يكتفي بذلك، بل كان يلزمهم شروطًا أخرى مهينة، لا يقبلها حرّ على نفسه، فضلاً عن أن يقبلها ملك أو أمير؛ وذلك من أجل تحطيم معنوياتهم، وكسر طموحاتهم نحو بلاد الإسلام، فيقنعون من المسلمين ببذل الجزية لهم نظير السلامة والأمان.
وفي واحدة من مشاهد العزة والقوة والكرامة، خرج الحاجب المنصور على رأس جيش كبير لغزو بلاد مملكة أرجوان سنة 378هـ، وقد كمن له الصليبيون عند مضايق جبال البرانس أو ألبرت كما يسميه الأوربيون الآن، وفي عماية الليل هجموا على المسلمين وأمطروهم بوابل من السهام المميتة، واضطربت صفوف المسلمين وفرّ كثير منهم لا يلون على شيء، ولكن الحاجب المنصور ومعه أبناؤه وكانوا مثله في القوة والشجاعة، ثبتوا ولم يفروا، ومعهم خاصة فرسان الحاجب من الفتيان الصقالبة، وثبت أيضًا قاضي الجماعة ابن ذكوان..
فلما رأى المسلمون ثبات قادتهم السياسيين والدينيين في القتال حمت نفوسهم، وعادوا للقتال على أشد ما يكون القتال، حتى أنزل الله عز وجل نصره على المؤمنين.
بعد هذا النصر الكاسح ألزمهم الحاجب المنصور دفع الجزية ومعها ابنة ملكهم (فرويلا الرابع) ليأخذها الحاجب جارية عنده، وكانت أجمل نساء زمانها، وأكثرهن شرفًا عند الأسبان، وذلك ليس حبًّا في النساء كما يظن البعض، ولكن لإرغام أنوف الكافرين، وردعهم عن محاربة المسلمين وتهديدهم مرة أخرى، فاضطروا للموافقة؛ خوفًا من بأس الحاجب وقوة المسلمين، فلما شيعها أبوها وأكابر دولته معه، قالوا لها: أصلحي حالنا عند المنصور، وتوسطي لنا دائمًا عنده...فردت المرأة -وكانت من أعقل نسائهم- قائلة:
" أيها الجبناء، العزة لا تنال بأفخاذ النساء، ولكن برماح الرجال."
المصادر
1- موقع مفكرة الاسلام
2- ابن عذاري, أبو العباس أحمد بن محمد . البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب.
3- عنان, محمد عبد الله . دولة الإسلام في الأندلس
4-القضاعي, ابن الأبّار الحلة السيراء
5- ابن حزم, علي . رسائل ابن حزم الأندلسي
6-المقري, أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد . أزهار الرياض في أخبار عياض.
7-ابن الخطيب, ذو الوزارتين لسان الدين . الإحاطة في أخبار غرناطة
8-العذري, أحمد بن عمر بن أنس . نصوص عن الأندلس من كتاب ترصيع
الأخبار وتنويع الآثار، والبستان في غرائب البلدان والمسالك إلى جميع الممالك.
9-نعنعي, عبد المجيد . تاريخ الدولة الأموية في الأندلس
10-المقري, أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد . نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
11-ابن خلدون, عبد الرحمن كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاونهم
No comments:
Post a Comment