الفتح الاسلامي للشمال الافريقي والمغرب العربي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 23- 2- 2020
قارّة إفريقيا إحدى قارّات العالم القديم، وكانت أول قارّةٍ وصل إليها الدِّين الإسلاميّ في السّنة الخامسة للبعثة النَّبويّة، كانت التجارة بين عرب شبه الجزيرة العربية وشعوب شرق إفريقيا ما زالت مستمرَّة حين جاء الإسلام، فلمَّا اشتدَّ أذى مشركي مكة للمسلمين أذن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حيث يوجد بها النجاشي، ولقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يُظلم عنده أحد، ومن ثَمَّ كان اختيار الحبشة كمكان لهجرة المسلمين ابتداءً، وكان الاستقبال الحافل والحفاوة البالغة التي تمَّ بها استقبال المسلمين كَفِيلَة باستمرارهم، وتَكَرَّرت هجرتهم مرَّة أخرى بِفَوْج أكبر من الفوج الأول، فبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلًا وتسعَ عشرةَ امرأة، وقد حاولت قريش الإيقاع بين المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وبين النجاشي ومَن معه من النصارى، ولكن قوَّة الحُجَّة عند المسلمين وحُسْن تصرفهم حالَ دون هذه الوقيعة، وازداد تمسُّك النجاشي بهم وحمايته لهم.
وقد كان للعَلاقات الودِّيَّة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والنجاشي، والمعاملة الطيبة التي لقيَها المسلمون المهاجرون إلى الحبشة أكبر الأثر في توثيق العَلاقات بين مسيحيي الحبشة وبين الإسلام، إلاَّ أن هذه الهجرات الإسلامية الأولية في عهد النبي محمد لم تترك أثرًا في حياة البلاد، وإن كانت قد تركت أثرًا في نفوس الأحباش، وأطلعتهم على الينبوع الرُّوحي الجديد المتفجِّر بالقوَّة والحياة، ووطَّدت الصلات بين الدولة الإسلامية في عهد الرسول وبين الأحباش، وحين بلغ الرسولَ وفاةُ النجاشي صلَّى عليه هو وأصحابه؛ فعن أبي هريرة قال: نعى لنا رسول الله النجاشي صاحب الحبشة اليومَ الذي مات فيه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ". وعنه أيضًا قال: إِنَّ النَّبِيَّ صَفَّ بهم بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. وعن عروة بن الزبير t، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كان يُتَحَدَّث أنه لا يزال يُرَى على قبره نور.
وفي السنة التاسعة من الهجرة، أرسل النبي محمد الصحابي الجليل علقمة بن مُجَزِّز على سريَّة في اتجاه الحبشة؛ لأن بعض مراكبهم كانت تقترب من مكة بحرًا، ولكنه لم يَلْقَ كيدًا كما تَذْكُر الرواية. ومن هنا كانت منطقة شرق إفريقيا أسبق بقعة في العالم القديم في استقبال الدعوة الإسلامية الخالدة وذلك عندما أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة من مكّة إلى الحبشة، عندما ازداد ظلم واضطهاد مشركي قريشٍ للمؤمنين؛ فكان قرار الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة؛ لكي يحافظ على أرواح المؤمنين وأموالهم وأبنائهم، وقال عليه السّلام واصفًا ملك الحبشة:"إنّ بها ملكاً لا يُظلم أحدٌ عنده"؛ فكان هذا أول وصولٍ إسلاميٍّ للقارّة الإفريقيّة، وقد ذكرت كُتب التَّاريخ أنّ ملك الحبشة النَّجاشيّ مات وهو معتنق للدِّين الإسلاميّ، ودليل ذلك صلاة الغائب التي أدّاها النّبي صلى الله عليه وسلم على النَّجاشي عندما وصله خبر وفاته.
يؤمن المُسلمون بأنَّ الرسولَ مُحمَّداً تنبأ وبشَّر بِفتح المغرب قبل حُصول هذا الأمر بِسنواتٍ عديدةٍ، ووردت في ذلك عدَّة أحاديث، ومن ذلك حديثٌ رواه الإمام مُسلم بن الحجَّاج في صحيحه عن جابر بن سمُرة عن نافع بن عُتبة عن الرسول أنَّهُ قال: «تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللهُ»، ومن المعروف أنَّ المغرب كان جُزءًا من بلاد الروم كذلك، تفرَّد المُؤرِّخ المغربي أبو العبَّاس أحمد بن خالد الناصري بِذكره نُبوءة مُخصصة تتناول فتح المغرب وحده في مُؤلَّفه حامل عنوان «الاستقصا لِأخبار دول المغرب الأقصى»، فأورد قصَّةً مفادها أنَّ الرسول مُحمَّدًا تنبَّأ بفتح المغرب وإسلام البربر واشتراكهم مع سائر المُسلمين في التمكين للدين الجديد، فقال أنَّه خلال خلافة عُمر بن الخطَّاب، وبعد تمام فتح مصر، أتى ستَّةٌ من البربر مُحلِّقين الرُؤوس واللحى إلى عمرو بن العاص وقالوا له أنهم رغبوا في الإسلام لأنَّ جُدودهم أوصوهم بذلك، فوجههم عمرو إلى عُمر في المدينة المُنوَّرة، ولمَّا أتوه تحدثوا معه عن طريق تُرجمان كونهم لا يعرفون العربيَّة، فسألهم: «مَن أَنْتُم؟»، قالوا: «نَحنُ بَنو مَازِيَغ»، فقال عُمر لِجُلسائه: «هَل سَمِعْتُمْ قَطّ بِهِؤُلَاء؟» فقال شيخٌ من قُريش: «يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَؤُلَاءِ البَربَرِ مِن ذُرِّيَّة بِر بنُ قَيسٍ بنُ عِيلَان خرج مُغَاضِبًا لِأَبِيهِ وَإِخْوَتهِ فَقَالُوا "بِر بِر" أَي أَخذ الْبَريَّة»، فسألهم عُمر: «مَا عَلَامَتِكُم فِي بِلَادكُمْ؟» قالوا: «نُكْرِمُ الْخَيلَ وَنُهِينُ النِّسَاء»، فقال لهم عُمر: «أَلَكُم مَدَائِن؟» قالوا: لا، قال: «أَلَكُم أَعْلَامٌ تَهْتَدُونَ بِهَا؟» قالوا: لا. فقال عُمر: «وَالله لَقَد كُنْتُ مَعَ رَسُول الله فِي بعض مَغَازيهِ فَنَظَرتُ إِلَى قِلَّةِ الْجَيْشِ وَبَكَيتُ فَقَالَ لي رَسُولُ الله : "يَا عُمَر لَا تَحْزن فَإِنَّ الله سَيُعزُّ هَذَا الدّينَ بِقَومٍ مِنَ الْمَغرِبِ لَيْسَ لَهُم مَدَائِنُ وَلَا حُصُونٌ وَلَا أَسْوَاقُ وَلَا عَلَامَاتٌ يَهْتَدُونَ بِهَا فِي الطُّرُق"؛ فَالْحَمْد لله الَّذِي منَّ عَليَّ بِرُؤيَتِهِم»
بعد استقرار أركان الدَّولة الإسلاميّة في عهد الخليفة الرَّاشد عمر بن الخطاب رضيّ الله عنه وجّه الجيوش في شرق المعمورة وغربها؛ لنشر الإسلام وتوسيع رقعة الدَّولة المسلمة، ففتح مصر على يدّ الصَّحابيّ عمرو بن العاص رضيّ الله عنه.بعد أن فتح عمرو بن العاص مصر عام 20هـ أيام الخليفة عمر بن الخطاب تقدم نحو الغرب حتى وصل إلى طرابلس إلا أن الخليفة لم يأذن له بالتقدم نحو إفريقية، وكان قد وجه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ففتح مصراته، وسيَّر عقبة بن نافع ففتح زويلة، وعينه أميرًا على حامية مرابطة في برقة، وأرسل بسر بن أرطأة ففتح ودان، وعين عبد الله بن سعد بن أبي سرح أميرًا على الصعيد
واصل الخليفة الرَّاشد عثمان بن عفّان رضيّ الله عنه، ففتح بلاد المغرب العربيّ بقيادة عبدالله بن أبي السّرح، وأسّس أوّل أسطول بحريٍّ للمساعدة في الفتوحات الإسلاميّة.
في العهد الأمويّ بدأ الخليفة معاوية بن أبي سفيان عهده بإتمام سياسة سابقيه من الخلفاء الرَّاشدين؛ فزاد من امتداد الدَّولة الإسلاميّة الأمويّة في مصر، وأسند إلى القائد عقبة بن نافع الفهريّ قيادة الفتوحات في شمال إفريقيا، فأسّس مدينة القيروان في تونس لتكون قاعدةً لانطلاق الجيوش الإسلاميّة، وفتح المغرب ووصل إلى سبتة، وطنجة والصَّحراء المغربيّة، ثُمّ أكمل كلٌّ من حسان بن النعمان، وموسى بن نصير توسيع رقعة الدَّولة، حتى أصبح الدِّين الإسلاميّ في وقتنا الرَّاهن الدِّين رقم واحدٍ في إفريقيا قاطبةً.
ففي خلافة عمر بن الخطّاب فتح عمرو بن العاص فلسطين ثم مصر سنة 21هـ، فبرقة سنة 22هـ، ووصل إلي جبال نفوسة سنة 23هـ، وعندما فكّر في فتح إفريقيّة استأذن عمر بقوله: "إنّ الله قد فتح علينا طرابلس، وليس بيننا وبين إفريقيّة إلاّ تسعة أيّام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يغزوها ويفتحها الله على يديه فعل." فكتب إليه عمر:" لا، إنّها ليست بإفريقيّة، ولكنّها المفرّقة، غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت." . وعندما تولّى الخلافة عثمان بن عفّان عزل عمرو بن العاص، ونصب مكانه على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة 25هـ/647م. فكان يبعث إلى إفريقيّة جرائد من المسلمين فيصيبون أطرافها ويغنمون. فاستأذن عبد الله عثمان في فتحها، فاستشار عثمان الناس. ولمّا اجتمع المجاهدون خرجوا إلى إفريقيّة سنة 27هـ/649م بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح في جيش العبادلة السبعة الذي يضمّ عشرين ألف مقاتل بعضهم من الصحابة.
وفي سبيطلة انتصر المسلمون على جرجير، وقيل إنّ قاتله هو عبد الله بن الزبير، فعقد مع البربر صلحا مقابل ثلاثمائة قنطار ذهبا، وعاد إلى مصر سنة 28هـ/650م، دون أن يولّي عليهم أحدا. . ويذكر ابن عذاري في "البيان المغرب" أنّ عبد الله بن سعد غزا إفريقيّة ثانية سنة 33هـ/655م، إثر نقض البربر الوعد. ومنذ تلك السنة إلى سنة 45هـ/666م توقّفت الفتوحات بسبب الفتنة الناشبة إثر مقتل عثمان، وبقي العالم الاسلامي ينتظر نتيجة الصراع حتى آلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، فأرسل معاوية بن حديج الكندي لفتح إفريقيّة، فانتصر على نجفور بسوسة، وفتح حصن جلولة. وكان أوّل من اختار قيروانا (بمعنى معسكر)، قرب قيروان اليوم. وفي سنة 50هـ/670م عزل معاوية بن أبي سفيان معاوية بن حديج، وولّى عقبة بن نافع الفهري قيادة الفتوح. وقد كان فاتحا في نواحي فزّان، فدخل البلاد مباعدا الساحل، ولم يجد مقاومة. ولمّا لم يعجبه قيروان معاوية سار حتّى نزل بقيروان اليوم وقال: "إن ّ إفريقيةّ إذا دخلها إمام تحوّموا بالإسلام، فإذا خرج منها رجع من كان أسلم بها وارتدّ إلى الكفر. وأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تجعلوا بها عسكرا وتكون عزّ الاسلام إلى آخر الدهر." . وركز رمحه وقال: "هذا قيروانكم" وكان هذا التأسيس سببا في عزل عقبة في السنة الموالية من قبل مسلمة بن مخلد والي مصر والمغرب، وتعويضه بمولى هو أبو المهاجر دينار الذي أصبح أميرا على إفريقيّة من سنة 55هـ/675م إلى سنة 62هـ/682م. وقد أسلم على يديه كسيلة وعدد كبير من البربر. وكان أوّل من أقام بها.
غير أنّ عقبة الذي أساء أبو المهاجر معاملته غداة عزله رفع الأمر إلى يزيد بن معاوية فردّه واليا على إفريقيّة. فكان أن قيّد كسيْلة وأبا المهاجر بالأصفاد وحملهما معه في غزواته في طنجة والسوس سنة 61هـ/681م إلى أن كاد له كسيلة بتهودا سنة 63هـ/683م، فتوجّه إليه زهير بن قيس في السنة الموالية فقتله . وفي سنة 73هـ/693م قدم حسّان بن النعمان من قبل عبد الملك بن مروان . وبعد حروب هزم الكاهنة زوجة شيخ قبيلة جراوة من البتر في واقعة سمّيت ببئر الكاهنة، وذلك سنة 76هـ/699م بفضل خالد بن يزيد الذي كانت الكاهنة استبقته ممّن أطلقت سراحهم عندما انتصرت على حسّان بن النعمان في معركة مسكيانة. وبذلك استتبّ لحسّان الأمر، فدّون الدواوين ووضع الخراج على عجم إفريقيّة ونصارى البربر، وأنشأ ميناء تونس ودارًا لصناعة السفن لتعزيز الأسطول الافريقي أمام أسطول البيزنطيين، وحطّم قرطاج عاصمة الحكم البيزنطي بالمقاطعة الإفريقيّة. وبذلك تمّ فتح إفريقيّة، ثمّ تحقّق فتح المغرب سنة 86هـ/705م، فالأندلس سنة 93هـ/712م على يد موسى بن نصير وقائده طارق بن زياد. يبدو إذن أنّ نيّة فتح إفريقيّة لم تتبلور في أوّل الأمر، كأنّ قادة المسلمين فضّلوا أن يدعموا الإسلام في البلدان المفتوحة ويعملوا على مواصلة نشره. ولم تكن المحاولات الأولى لفتح إفريقيّة منظّمة بل كانوا يغزون ويغنمون، ثمّ يعودون إلى مصر.ولكنّها، رغم ذلك، كانت بمثابة الإرهاصات وجسّ النبض تمهيدا للفتح الحقيقي الذي وطّده عقبة بسياسة الشدّة وأبو المهاجر بسياسة اللّين، واستكمله حسّان بن النعمان. فجاء إسلام إفريقيّة النهائي نتيجة لكلّ تلك المحاولات السابقة إلى جانب ظروف ومعطيات خاصة بإفريقيّة، منها ما ساعد على انتشار الاسلام بها، ومنها ما عرقل سعيه إليها. فممّا ساعد على ذلك محاولات الاغراء والتشجيع المادي والمعنوي بالنسبة إلى جيوش الفاتحين، وتمثّلت في تقاسم الغنائم والسبي ماديّا، وفي الأجر والثواب والتقديس معنويّا، خاصة بالنسبة إلى عقبة. وقابل ذلك من جانب البربر انخراط مصلحي في حضارة الإسلام طلبا للجاه والعزّة إلى حدّ جعلهم يبدلون أنسابهم البربرية بأنساب عربيّة، بكلّ أمل وفخر. وقد كان البرانس من البربر أكثر إقبالا على الإسلام واندماجا في العرب باعتبار أن سكاّن المدن أكثر من البدو قابليّة للتأثّر والتمدّن. فنشأ جيل المولّدين من آباء عرب وأمّهات بربريّات، وكان عاملا ساعد الإسلام على الانتشار، إلى جانب خشية البربر من الانقراض، ورغبتهم في عدم دفع الجزية. هذا فضلا عمّا أشار إليه ابن خلدون من أن ّ المغلوب مولع بتقليد الغالب، ومن أن البربر يشبهون العرب في حياة البداوة.
والمتأمّل في أحوال البربر وعلاقتهم بالسلطة البيزنطيّة قبل الفتح يجد دافعا جديدا جعلهم يقبلون على الاسلام اختيارا لأخفّ الضررين. فلقد اتّسم الحكم البيزنطي بمعاملة البربر معاملة قاسية جائرة بفرض الضرائب وإقصائهم عن الإدارة ومنعهم من ممارسة حقوقهم السياسيّة وعدم تعليمهم، إلى جانب الفرق الحضاري واللغوي بين اللاّتينيّة لغة الإدارة واللهجات البربريّة. بل كان البيزنطيون يستغلّون ما تنتجه أيدي البربر. ولقد كان قسطنطين يرغمهم على أن يؤدّوا إليه مثل ما يؤدّونه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فإذا بهم يعتنقون الدين الجديد بعد أن علموا مدى بساطته المناسبة لذهنياتهم، إذ يكفي أن ينطق البربري بالشهادة ليغفر الله له ما تقدّم من ذنوبه، على قول الفاتحين وصحابتهم للسائلين عن هذا الدين من البربر.
كما وجد هؤلاء في الإسلام العدالة المنشودة والمساواة بين جميع العباد، إذ "لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى" (حديث). ووجدوا فيه غذاء روحيّا مفيدا أنقذ عقلاءهم ممّا كانوا يتخبّطون فيه من الحيرة رغم وجود أشباه ديانات وثنيّة إلى جانب المسيحيّة المحدودة الانتشار. ومن هذه الدوافع العديدة ما سلكه بعض الفاتحين والولاة في إفريقية من سياسة الترغيب. فأبو المهاجر دينار قد تمكّن من جلب عواطف البربر نحوه بفضل لينه في معاملتهم واحترامه لهم.
ولكنّ تلك العوامل المساعدة على انتشار الاسلام في إفريقيّة واجهتها عوامل أخرى مضادة، أهمّها العصبيّة البربريّة، خاصة في البُتر منهم الذين وقفوا في وجه الفاتحين معتبرين إيّاهم غزاة. فكانوا يرتدّون إلى وثنيتهم أو إلى مسيحيّتهم كلّما عاد الفاتحون من حيث أتوا. وقد قويت هذه العصبيّة عندما انتبه البربر إلى أنّ نيّة الفاتحين الأوائل، إنّما هي السلب والسبي. ثمّ ضعفت هذه العصبيّة أمام بعض الفاتحين بسبب حسن معاملتهم لهم، لكنّها قويت بانتهاج بعض الفاتحين والقواد سياسة الترهيب التي انتهجها عقبة متأثّرا بخالد بن الوليد، وهو ما عجّل بعزله. فلقد كان يتخذ جنده الخاص من البرابرة ويحتقرهم دون أن يستثني قوادهم. فكان أن نفروا منه وتألّبوا عليه، وثاروا بقيادة كسيلة، فقتل وافتكّت القيروان. تلك الدوافع وهذه العراقيل قد تجابهت وتفاعلت بجلاء طيلة القرن الأول، فانتهت بإفريقيّة إلى الإسلام في العقد الثامن منه، إلاّ أنّها واصلت عملها في الخفاء وبرزت فيما بعد في عدّة مظاهر وأشكال ومناسبات، تعتمد العصبيّة أساسا وترمي إلى السياسة أو إلى المذهبيّة الدينيّة هدفا، ممّا يدعو إلى القول بأن إفريقيّة لم يتمّ إسلامها إلاّ بعد القرون الأربعة الأولى.
فالدولة الزيريّة، وهي متأخّرة بالنسبة إلى الفتوحات وإلى الدولتين الأغلبية والفاطميّة، قد قامت على العصبيّة البربريّة ممثّلة في قبيلة صنهاجة، مثلما قامت سابقتها على قبيلة كتامة، بل لعلّ ما يدعم فعل العصبيّة تلك الثورات البربريّة والخارجيّة (نسبة إلى الخوارج من الاباضيّة والصفريّة) التي هزّت إفريقيّة هزّا طيلة القرن الثاني/8م، مثل فتنة "برغواطة" والمتنبّي "حاميم" في المغرب الدّالة على وجود رواسب وثنيّة مطعّمة بالتعاليم الإسلاميّة. فلحاميم قرآن فيه سور على عدد الأنبياء والحيوان، وفيه صلاة وزكاة وصوم كما في غير هذين المثالين رواسب مسيحيّة ويهوديّة. أمّا الثورات الخارجيّة فكانت كثيرا ما تستغلّ العصبيّات البربريّة التي لم تكن غاية المشاركين فيها من البربر إلاّ القضاء على السلطة العربيّة، مثل ثورات ميسرة المدغري سنة 122هـ/741م بطنجة وعكاشة الصفري سنة 124هـ/743م بالزاب وأبي يزيد مخلد بن كيداد الخارجي الملقّب بصاحب الحمار سنة 333هـ/945م بالقيروان والمهديّة. إلاّ أنّ أمراء إفريقيّة المهلّبيين استطاعوا القضاء على تلك الثورات والانتفاضات المتكرّرة، موطّدين بذلك أركان النفوذ العربي بإفريقيّة. ولم يكن إسلام افريقيّة مقتصرا على العمل العسكري والسياسي، بل اتّجه أيضا وجهة ثقافيّة أو تعليميّة تمثّلت في التعريب الذي انطلق في بداية الفتوحات فيها وتواصل طيلة ق 1و2هـ/7 - 8م، بفضل بعثة عمر بن عبد العزيز بالفقهاء العشرة لتعليم البربر قواعد دينهم الجديد، بعد تعليمهم مبادئ العلوم القرآنية. وعلى ذلك النحو توازى الفتح والتعريب مدعّما أحدهما الاخر في إطار التواصل الثقافي بين المغرب والمشرق.
المصادر
ـــــــــــــ
1- البلاذري أبو العباس أحمد بن يحي، فتوح البلدان
2- ابن عبد الحكم،فتوح إفريقية والأندلس،
3-الواقدي محمد، فتوح إفريقية
4- الموسوعة التاريخية التونسية
5- الكامل في التاريخ لابن الاثير
6- بورويبة، رشيد. "الفتح الإسلامي لبلاد المغرب
7- الناصري، شهابُ الدين أبو العبَّاس أحمد بن خالد بن مُحمَّد الدرعي الجعفري السلَّاوي -. الاستقصا لِأخبار دول المغرب الأقصى
8- حُسين مُؤنس . فتح العرب للمغرب
9- ابن خلدون -كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكب ج2
10- المسعودي - مروج الذهب ومعادن الجوهر
11- ابن تغري بردي،-النُجوم الزاهرة في مُلوك مصر والقاهرة
12- ابن عذاري المُرَّاكشي - البيانُ المُغْرِب في اختصار أخبار ملوك الأندلُس والمغرب ج2
13- مُحمَّد سُهيل طقّوش،تاريخ الخُلفاء الرَّاشدين: الفُتوحات والإنجازات السياسيَّة
14- ابن عبد الحكم -فُتُوح مصر وأخبارها
15- النُويري- نهاية الأرب في فنون الأدب
16- البكري الأندلُسي، المُغرِّب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب
No comments:
Post a Comment